الـ"بدون" في الكويت، والبحث عن الهوية
أحمد دياب بي بي سي - الكويت
"نعم أعرف بي بي سي، ولكنها لا تعنيني. كل ما يهمني هو قوت يومي فقط!."
قدنا السيارة في طريق طويلة، أخذتنا 30 او ربما 40 كيلو مترا إلى الغرب من مدينة الكويت. واخيرا وصلنا، إنها مدينة الجهراء، وهذا حي "النعيم".
النعيم، يبدو لي اسما على مسمى. بيوت أنيقة وجميلة، تصطف أمامها سيارات حديثة فارهة.
شوارع نظيفة منظمة، وجيدة الاضاءة ليلا، التخضير في كل مكان، جهد رائع يبذل لهذا الغرض في هذه البلاد الصحراوية الطابع. لن تصدق
استكملنا سيرنا إلى حي آخر قريب، إنها "الشعبيات".
القبح والجمال يتلاقيان وجها لوجه، أو بالأحرى يفصل بينهما شارع.
في الشعبيات، لن تصدق أنك في الكويت.
طرقنا باب أحد المنازل، بيت شعبي قديم لم تطله يد الصيانة منذ زمن، في شارع ملأته الحفر، والقطط الضالة.
"أهلا وسهلا حياكم الله،" استقبلنا رجل قارب الستين من عمره، يرتدي ثوبا كويتيا، ويلبس غترة (غطاء رأس) بيضاء ثبتها بـ"عقال" أسود غليظ.
حدثنا أبوطلال، وهو مدرس سابق تخرج في جامعة الكويت، عن الشعبيات. من هم؟
هنا تقيم أكثرية من "البدون"، كما يقيمون في أحياء مماثلة تقع في مناطق أخرى من الكويت، مثل "الصليبية".
والبدون، لمن لا يعرف، آلاف من الرجال والنساء من أصول ومذاهب متباينة يعيشون في الكويت منذ ما يقارب نصف قرن، ويقولون إنهم كويتيون، ولكن السلطات لا تعترف بهذا وترفض منحهم حق المواطنة.
يقول ابو طلال إن عشرات الآلاف من البدون مثله، يعانون من إهدار الدولة لكرامتهم، ومن إهمالها لأبسط حقوقهم، ويضيف "ليس هذا سرا، بل هو متداول ومعروف منذ زمن، وهو جزء من حياتنا اليومية."
ويقول البدون أنهم محرومون من تلقي العلاج والتعليم على نفقة الدولة، وهم يعتبرون هذا حقا حرمهم منه عدم احتفاظهم بالجنسية الكويتية.
وتفرض وزارة الصحة الكويتية على غير الكويتيين المقيمين في البلاد، ومنهم البدون بالطبع، شراء وثائق للتأمين الصحي، غير ان ذلك لا يعفيهم من دفع رسوم عند مراجعتهم مرافقها الصحية.
ولا يحق للبدون أيضا، كما يقول، إستصدار رخص القيادة.
ويتساءل "وماذا أفعل إذا احتاجت زوجتي أو احد أولادي لرعاية طبية خلال الليل، هل أتركهم يموتون؟!"
ولا يعد اقتناء سيارة خاصة ترفا في الكويت. لا توثيق
ويضيف الرجل أن الحكومة توقفت عن إصدار شهادات ميلاد له ولأولاده، بل وتمنع إصدار شهادات وفاة إذا ما مات احدهم، وتصدر بدلا من ذلك ما يسمى ببلاغات الولادة أو الوفاة.
وتمتنع الدولة ايضا عن توظيف البدون في الجهات الحكومية، او توثيق عقود الزواج بينهم، بل إن المحاكم الكويتية لا تعترف بشهادتهم حسب تعبيره.
ويشاركه الرأي أبو عبد الرحمن، وهو رجل في الأربعينيات يحمل شهادة جامعية في الرياضيات.
ويقول إن زملاءه الذين تخرجوا معه من الكويتيين يحتلون الآن مناصب كبرى، حرم منها لأنه لا يحمل الجنسية.
وعمل الرجل معلما في وزارة التربية الكويتية حتى طرد منها عام 1991 بقرار من مجلس الوزراء.
وقال إنه يعيش الآن على الكفاف ويتلقى معونات من جهات خيرية وان جل تفكيره ينصب على تحصيل قوته يوما بيوم.، بل يقول إن الحكومة تفعل ذلك عمدا للضغط عليهم لمغادرة الكويت، أو تعديل اوضاعهم.
وقال بمرارة "هم ذهبوا أمس للتصويت، وبقينا في بيوتنا، لا نملك الحق في اختيار من يتحدث عن همومنا،" في إشارة للانتخابات البرلمانية الكويتية التي جرت الاسبوع الماضي.
ورفض الرجلان الافصاح عن اسميهما أو تصويرهما، خوفا حسب قولهما-من قسوة أجهزة الأمن.
وتقل أعداد البدون في الكويت عن 100 ألف شخص.
وتخشى الحكومة الكويتية أن من بينهم من يحمل جنسية بلد آخر لكنه يخفيها طمعا في الحصول على المميزات التي يتمتع بها المواطن الكويتي.
وعينت الدولة لجنة خاصة للتعامل مع شؤون البدون، يرى كثير منهم انها تحط من كرامتهم وتنتهك حقوقهم الانسانية. مرسوم أميري
وكان أمير الكويت الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح قد أصدر مرسوما عام 1999 يقضي بمنح الجنسية لـ2000 من البدون سنويا، لكن البرلمان رفض المرسوم.
وترى الحكومة أن من بين البدون من يستحقون الحصول على الجنسية، وهم من كان تم احصائهم ضمن سكان الكويت عام 1965. لكنها تقول إن قيودا أمنية تحول دون منح كثير منهم حق المواطنة. كما أنها لا تخفي تشكيكها في انتماء بعضهم وولاءه للكويت. الأوراق الأصلية
ومن الكويتيين من يرى ان فئة قليلة جدا من البدون تعاني من بعض الظلم، مثلما يقول سعد العجمي، الذي يشغل منصبا في مؤسسة صحفية كويتية مرموقة، ويؤكد أن الضغط الحكومي نجح في دفع العديد ممن كانوا يسمون أنفسهم بالبدون لإظهار أوراقهم الأصلية التي تثبت انتمائهم لبلدان أخرى مجاورة.
ويضيف العجمي ان هذا الموضوع الانساني قد استغل لتحقيق مآرب شخصية.
ويقول الصحفي الكويتي، نجم الشمري، وهو باحث في شؤون البدون ومدافع متحمس عن حقوقهم ، إنه يجب على الكويت أن تستفيد من وجود هؤلاء في دفع جهودها للتنمية، لا سيما أن البلاد يقطنها مايزيد عن المليون ونصف المليون موظف وعامل من جنسيات مختلفة، لكنه يخشى عدم جدية الحكومة في إيجاد حل ينهي معاناة هؤلاء.
ويرى كذلك أن المشكلة تزداد تعقيدا بمرور الوقت وان البرلمانات المتعاقبة قد أسهمت بإهمالها تعقب المشكلة في تعقيدها.
ويطالب الشمري الحكومة بتقديم إثبات لمن تعتبرهم رعايا دول أجنبية، أو بإحالتهم للمحكمة.
ورقة الضغط
وينبه ان هذا الملف قد يتم إثارته كورقة ضغط مستقبلا إذا ما تغيرت الظروف الدولية أو الحسابات السياسية المحيطة بالكويت.
من جانبه أوضح أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت الدكتور غانم النجار ان معاناة البدون الحقيقية بدأت في منتصف ثمانينات القرن الماضي مع تطورات الحرب العراقية الإيرانية وزادت بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990.
ولازمت الكويتيين الظنون بأن كثيرا ممن يسمون بالبدون قد تعاونوا مع قوات الاحتلال. ويدعم ظنونهم رحيل آلاف منهم مع انسحاب القوات العراقية عام 1991 من البلاد.
و تكمن المشكلة، كما يقول النجار، في نظرة الحكومة الأمنية-السياسية للموضوع وربطها حل القضية بالتجنيس.
وكان وزير الداخلية الكويتي الشيخ جابر المبارك الصباح قد وعد في أواخر مارس/ آذار الماضي "بحل قريب لمشكلة غير محددي الجنسية".
وأكد في تصريح نشرته الصحافة المحلية عزم القيادة السياسية للبلاد على المضي قدما في العمل على تسوية المسألة.
ويصعب ان تتفق الآراء حول نظرة واحدة لتلك القضية، ولكن يصعب ايضا أن يختلف اثنان على ان السكوت عنها لا يصب في مصلحة الكويت.
موضوع من BBCArabic.com
أحمد دياب بي بي سي - الكويت
"نعم أعرف بي بي سي، ولكنها لا تعنيني. كل ما يهمني هو قوت يومي فقط!."
قدنا السيارة في طريق طويلة، أخذتنا 30 او ربما 40 كيلو مترا إلى الغرب من مدينة الكويت. واخيرا وصلنا، إنها مدينة الجهراء، وهذا حي "النعيم".
النعيم، يبدو لي اسما على مسمى. بيوت أنيقة وجميلة، تصطف أمامها سيارات حديثة فارهة.
شوارع نظيفة منظمة، وجيدة الاضاءة ليلا، التخضير في كل مكان، جهد رائع يبذل لهذا الغرض في هذه البلاد الصحراوية الطابع. لن تصدق
استكملنا سيرنا إلى حي آخر قريب، إنها "الشعبيات".
القبح والجمال يتلاقيان وجها لوجه، أو بالأحرى يفصل بينهما شارع.
في الشعبيات، لن تصدق أنك في الكويت.
طرقنا باب أحد المنازل، بيت شعبي قديم لم تطله يد الصيانة منذ زمن، في شارع ملأته الحفر، والقطط الضالة.
"أهلا وسهلا حياكم الله،" استقبلنا رجل قارب الستين من عمره، يرتدي ثوبا كويتيا، ويلبس غترة (غطاء رأس) بيضاء ثبتها بـ"عقال" أسود غليظ.
حدثنا أبوطلال، وهو مدرس سابق تخرج في جامعة الكويت، عن الشعبيات. من هم؟
هنا تقيم أكثرية من "البدون"، كما يقيمون في أحياء مماثلة تقع في مناطق أخرى من الكويت، مثل "الصليبية".
والبدون، لمن لا يعرف، آلاف من الرجال والنساء من أصول ومذاهب متباينة يعيشون في الكويت منذ ما يقارب نصف قرن، ويقولون إنهم كويتيون، ولكن السلطات لا تعترف بهذا وترفض منحهم حق المواطنة.
يقول ابو طلال إن عشرات الآلاف من البدون مثله، يعانون من إهدار الدولة لكرامتهم، ومن إهمالها لأبسط حقوقهم، ويضيف "ليس هذا سرا، بل هو متداول ومعروف منذ زمن، وهو جزء من حياتنا اليومية."
ويقول البدون أنهم محرومون من تلقي العلاج والتعليم على نفقة الدولة، وهم يعتبرون هذا حقا حرمهم منه عدم احتفاظهم بالجنسية الكويتية.
وتفرض وزارة الصحة الكويتية على غير الكويتيين المقيمين في البلاد، ومنهم البدون بالطبع، شراء وثائق للتأمين الصحي، غير ان ذلك لا يعفيهم من دفع رسوم عند مراجعتهم مرافقها الصحية.
ولا يحق للبدون أيضا، كما يقول، إستصدار رخص القيادة.
ويتساءل "وماذا أفعل إذا احتاجت زوجتي أو احد أولادي لرعاية طبية خلال الليل، هل أتركهم يموتون؟!"
ولا يعد اقتناء سيارة خاصة ترفا في الكويت. لا توثيق
ويضيف الرجل أن الحكومة توقفت عن إصدار شهادات ميلاد له ولأولاده، بل وتمنع إصدار شهادات وفاة إذا ما مات احدهم، وتصدر بدلا من ذلك ما يسمى ببلاغات الولادة أو الوفاة.
وتمتنع الدولة ايضا عن توظيف البدون في الجهات الحكومية، او توثيق عقود الزواج بينهم، بل إن المحاكم الكويتية لا تعترف بشهادتهم حسب تعبيره.
ويشاركه الرأي أبو عبد الرحمن، وهو رجل في الأربعينيات يحمل شهادة جامعية في الرياضيات.
ويقول إن زملاءه الذين تخرجوا معه من الكويتيين يحتلون الآن مناصب كبرى، حرم منها لأنه لا يحمل الجنسية.
وعمل الرجل معلما في وزارة التربية الكويتية حتى طرد منها عام 1991 بقرار من مجلس الوزراء.
وقال إنه يعيش الآن على الكفاف ويتلقى معونات من جهات خيرية وان جل تفكيره ينصب على تحصيل قوته يوما بيوم.، بل يقول إن الحكومة تفعل ذلك عمدا للضغط عليهم لمغادرة الكويت، أو تعديل اوضاعهم.
وقال بمرارة "هم ذهبوا أمس للتصويت، وبقينا في بيوتنا، لا نملك الحق في اختيار من يتحدث عن همومنا،" في إشارة للانتخابات البرلمانية الكويتية التي جرت الاسبوع الماضي.
ورفض الرجلان الافصاح عن اسميهما أو تصويرهما، خوفا حسب قولهما-من قسوة أجهزة الأمن.
وتقل أعداد البدون في الكويت عن 100 ألف شخص.
وتخشى الحكومة الكويتية أن من بينهم من يحمل جنسية بلد آخر لكنه يخفيها طمعا في الحصول على المميزات التي يتمتع بها المواطن الكويتي.
وعينت الدولة لجنة خاصة للتعامل مع شؤون البدون، يرى كثير منهم انها تحط من كرامتهم وتنتهك حقوقهم الانسانية. مرسوم أميري
وكان أمير الكويت الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح قد أصدر مرسوما عام 1999 يقضي بمنح الجنسية لـ2000 من البدون سنويا، لكن البرلمان رفض المرسوم.
وترى الحكومة أن من بين البدون من يستحقون الحصول على الجنسية، وهم من كان تم احصائهم ضمن سكان الكويت عام 1965. لكنها تقول إن قيودا أمنية تحول دون منح كثير منهم حق المواطنة. كما أنها لا تخفي تشكيكها في انتماء بعضهم وولاءه للكويت. الأوراق الأصلية
ومن الكويتيين من يرى ان فئة قليلة جدا من البدون تعاني من بعض الظلم، مثلما يقول سعد العجمي، الذي يشغل منصبا في مؤسسة صحفية كويتية مرموقة، ويؤكد أن الضغط الحكومي نجح في دفع العديد ممن كانوا يسمون أنفسهم بالبدون لإظهار أوراقهم الأصلية التي تثبت انتمائهم لبلدان أخرى مجاورة.
ويضيف العجمي ان هذا الموضوع الانساني قد استغل لتحقيق مآرب شخصية.
ويقول الصحفي الكويتي، نجم الشمري، وهو باحث في شؤون البدون ومدافع متحمس عن حقوقهم ، إنه يجب على الكويت أن تستفيد من وجود هؤلاء في دفع جهودها للتنمية، لا سيما أن البلاد يقطنها مايزيد عن المليون ونصف المليون موظف وعامل من جنسيات مختلفة، لكنه يخشى عدم جدية الحكومة في إيجاد حل ينهي معاناة هؤلاء.
ويرى كذلك أن المشكلة تزداد تعقيدا بمرور الوقت وان البرلمانات المتعاقبة قد أسهمت بإهمالها تعقب المشكلة في تعقيدها.
ويطالب الشمري الحكومة بتقديم إثبات لمن تعتبرهم رعايا دول أجنبية، أو بإحالتهم للمحكمة.
ورقة الضغط
وينبه ان هذا الملف قد يتم إثارته كورقة ضغط مستقبلا إذا ما تغيرت الظروف الدولية أو الحسابات السياسية المحيطة بالكويت.
من جانبه أوضح أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت الدكتور غانم النجار ان معاناة البدون الحقيقية بدأت في منتصف ثمانينات القرن الماضي مع تطورات الحرب العراقية الإيرانية وزادت بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990.
ولازمت الكويتيين الظنون بأن كثيرا ممن يسمون بالبدون قد تعاونوا مع قوات الاحتلال. ويدعم ظنونهم رحيل آلاف منهم مع انسحاب القوات العراقية عام 1991 من البلاد.
و تكمن المشكلة، كما يقول النجار، في نظرة الحكومة الأمنية-السياسية للموضوع وربطها حل القضية بالتجنيس.
وكان وزير الداخلية الكويتي الشيخ جابر المبارك الصباح قد وعد في أواخر مارس/ آذار الماضي "بحل قريب لمشكلة غير محددي الجنسية".
وأكد في تصريح نشرته الصحافة المحلية عزم القيادة السياسية للبلاد على المضي قدما في العمل على تسوية المسألة.
ويصعب ان تتفق الآراء حول نظرة واحدة لتلك القضية، ولكن يصعب ايضا أن يختلف اثنان على ان السكوت عنها لا يصب في مصلحة الكويت.
موضوع من BBCArabic.com